Wednesday 18 March 2009

أمر المؤمن كله خير

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (الحديد، 22 - 23)

إننا نرى كثيرا من الناس يفرحون بما رزقوا به من ثروات فيخزّنونها ويسدلون عليها الستار ويخفونها عن أعين الناس، ظانين أن ذلك ملك مطلق لهم، كما نجدهم في المقابل يحزنون على ما فاتهم فييئسون من رحمة الله، فإنهم في هذه الحالة قد نسوا أن رزقهم في الحقيقة وديعة استودعها رب العالمين لينفقونها على المحتاجين. أفلا يستحي العبد أن يكون على ضدّ قدره تعالى، فيأسى على ما أخذ منه و يفرح بما ليس له؟؟ بيد أنه ليس كل خير يلحقه ولا شر يصيبه إِلَّا وهو مقدر ومحسوب فكله بقدر مقسوم ولأجل معلوم.
سجل لنا الواقع حاليا في عصر ازدهار العلم والثقافة: أن كثيرا من الناس يعيشون بعقلية عصور التراجع الحضاري التي مرت بها الجاهلية الأولى، فيصبحون عاجزين عن شكر الله عز وجل في السراء والصبر في الضراء. فهذا العجز يرسم لنا فراغ القلوب عن الإيمان. نعم إنهم خبراء وعلماء في العلوم المدنية المعاصرة وعباقرة في القضايا السياسية والاقتصادية غير أن علومهم وخبراتهم لا تجلب لهم السكينة والاطمئنان. فأي وسع ينالونه فثم الترف، وأي ضيق يصيبهم فثم الجزع. فهذا الداء خطره كبير إذ أنه قد يفضي إلى إنزال النفوس منازل الأغنياء عن اللّه.
إذن ما هو منبع الاطمئنان؟؟ لاشك أنه الإيمان بالقدر المسيطر على الوجود، فهو الذي يردّ كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتقاد بأن كل ما يصيب من خير و شر لا يكون إلا بأمر الله، وهي حقيقة لا يكون الإيمان إلا بها. فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة وأحداثها، فيحس الإنسان يد الله في كل حدث، ويرى يد الله في كل حركة، فجزاء على ذلك ينزل الله السكينة في قلبه فيطمئن قلبه لما يصيبه من السراء والضراء، "مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ، ومن يؤمن بالله يهد قلبه" (التغابن: 11)
إن الإيمان سمة يعرف بها مطمئن النفس ممن سواه، إذ أنه ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ويسعد ويشقى غير أن المؤمن يجعل مصيبته صبرا وغنيمته شكرا. حتى أن الرسول  كان يضحك أمام أصحابه عجبا لهذه السمة السامية النبيلة التي لا يتسم بها إلا المؤمن وكان يقول لأصحابه: ألا تسألوني مم أضحك؟؟ قالوا يا رسول الله ومم تضحك؟؟ قال عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير وليس كل أحد أمره كله له خير إلا المؤمن (رواه أحمد في مسنده)
فالعجب كل العجب لأمر المؤمن، كله خير وليس ذلك قط إلا لمؤمن، لماذا؟؟ لأنه على منتهى الثقة بالله، والله لا يكلف نفسا إلاّ وسعها، إذ لا يحمّل الفقير مثل ما يحمّل الغني ولا القوي مثل الضعيف ولا المالك مثل المملوك وهو بعباده خبير فضلا عن أن هناك بشارة عظيمة من الحكيم الخبير ألا وهي أن بعد العسر يسر. فقد علق صاحب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان أن تعريف "العسر" في قوله تعالى "فإن مع العسر يسرا" دل على أنه واحد وتنكير "يسرا" دل على الكثرة والتكرار. وقد روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر بن الخطاب أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مُنزَل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وأن الله تعالى يقول في كتابه "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" (آل عمران: 200)* الحديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجه وتعليق الحافظ الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم.

النقطة الثانية هي أن المؤمن يظن بالله حسن الظن حيث أنه تعالى لن يوقعه في موقعة إلا وراءها حكم جلية وفوائد جمة له، فيترك كل أموره اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقة به وانقطاعا إليه، ويطمئن قلبه لما يصيبه من السراء والضراء، فيشكر للأولى ويصبر للثانية بل قد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء والضراء، إذ يرى في الضراء فضل الله ورحمته كما في السراء. إضافة إلى أنه على يقين أن الله تعالى أعلم بمصلحته منه. فإن كان كذلك، فكيف يأسى المؤمن على مفقود لا يرده عليه الفوت، أو يفرح بموجود لا يتركه في يديه الموت، فأمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له أيضا.
وإليك في نهاية المطاف صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنه  كان يربط الحجر على بطنه عند الجوع حينما لا يجد ما يسد رمقه من التمر. وحين يقف على القتلى في معركة أحد ينظر إلى عمه حمزة وقلبه مجلوب، ثم ينظر إلى سعد بن ربيع وهو ممزق، فتدمع عيناه حتى تبتل لحيته ولكنه يتبسم صابرا صبرا جميلا. وعندما توفي ابنه بين يديه وهو في الثانية من عمره كان ينظر إلى ابنه الحبيب ودموعه  تتساقط على خد ابنه وهو يقول "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون (رواه شيخان).
رحمت هدايت لوبس
15 - 03 - 2009 طرابلس الغرب
طالب كلية الدعوة الإسلامية

No comments:

Post a Comment